الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وأما الصلاة [الزحافة] وقولهم: من لم يواظب عليها فليس من أهل السنة ـ ومرادهم الركعتان بعد الوتر جالساً ـ فقد أجمع المسلمون على أن هذه ليست واجبة، وإن تركها طول عمره، وإن لم يفعلها ولا مرة واحدة في عمره. لا يكون بذلك من أهل البدع، ولا ممن يستحق الذم والعقاب، ولا يهجر ولا يوسم بميسم مذموم أصلا، بل لو ترك الرجل ما هو أثبت منها كتطويل قيام الليل، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوله، وكقيام إحدي عشرة ركعة. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ونحو ذلك. لم يكن بذلك خارجا عن السنة، ولا مبتدعا ولا مستحقا للذم، مع اتفاق المسلمين على أن قيام الليل إحدي عشرة ركعة طويلة. كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل أفضل، من أن يدع ذلك ويصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس. فإن الذي ثبت في صحيح مسلم عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل إحدي عشرة ركعة وهو جالس ثم صار يصلي تسعاً، يجلس عقيب الثامنة والتاسعة، ولا يسلم إلا عقيب / التاسعة، ثم يصلي بعدها ركعتين وهو جالس، ثم صار يوتر بسبع، وبخمس، فإذا أوتر بخمس لم يجلس إلا عقيب الخامسة، ثم يصلي بعدها ركعتين وهو جالس. وإذا أوتر بسبع، فقد روي أنه لم يكن يجلس إلا عقيب السابعة، وروي: أنه كان يجلس عقيب السادسة والسابعة، ثم يصلي ركعتين بعد الوتر وهو جالس. وهذا الحديث الصحيح دليل على أنه لم يكن يداوم عليها، فكيف يقال: إن من لم يداوم عليها فليس من أهل السنة. والعلماء متنازعون فيها: هل تشرع أم لا؟ فقال كثير من العلماء: إنها لا تشرع بحال، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً). ومن هؤلاء من تأول الركعتين اللتين روي أنه كان يصليهما بعد الوتر على ركعتي الفجر. لكن الأحاديث صحيحة صريحة بأنه كان يصلي بعد الوتر ركعتين وهو جالس، غير ركعتي الفجر. وروي في بعض الألفاظ: أنه كان يصلي سجدتين بعد الوتر، فظن بعض الشيوخ أن المراد سجدتان مجردتان، فكانوا يسجدون بعد الوتر سجدتين مجردتين، وهذه بدعة لم يستحبها أحد من علماء المسلمين، بل ولا فعلها أحد من السلف. وإنما غرهم لفظ السجدتين، والمراد بالسجدتين الركعتان، كما قال ابن عمر: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتين قبل الظهر، وسجدتين بعدها، وسجدتين بعد المغرب، وسجدتين بعد العشاء،/ وسجدتين قبل الفجر أي: ركعتين. ولعل بعض الناس يقول: هاتـان الركعتان اللتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد الوتر جالساً، نسبتها إلى وتر الليل: نسبة ركعتي المغرب إلى وتر النهار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المغرب وتر النهار. فأوتروا صلاة الليل). رواه أحمد في المسند. فإذا كانت المغرب وتر النهار، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بعد المغرب ركعتين، ولم يخرج المغرب بذلك عن أن يكون وتراً؛ لأن تلك الركعتين هما تكميل الفرض وجبر لما يحصل منه من سهو ونقص، كما جاءت السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها) حتى قال: (إلا عشرها)، فشرعت السنن جبراً لنقص الفرائض. فالركعتان بعد المغرب لما كانتا جبراً للفرض، لم يخرجها عن كونها وتراً، كما لو سجد سجدتي السهو، فكذلك وتر الليل جبره النبي صلى الله عليه وسلم بركعتين بعده. ولهذا كان يجبره إذا أوتر بتسع أو سبع أو خمس لنقص عدده عن إحدي عشرة. فهنا نقص العدد، نقص ظاهر. وإن كان يصليهما إذا أوتر بإحدي عشرة كان هناك جبراً لصفة / الصلاة، وإن كان يصليهما جالساً؛ لأن وتر الليل دون وتر النهار فينقص عنه في الصفة، وهي مرتبة بين سجدتي السهو، وبين الركعتين الكاملتين، فيكون الجبر على ثلاث درجات، جبر للسهو سجدتان، لكن ذاك نقص في قدر الصلاة ظاهر، فهو واجب متصل بالصلاة. وأما الركعتان المستقلتان، فهما جبر لمعناها الباطل، فلهذا كانت صلاته تامة. كما في السنن: (إن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة فإن أكملها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع)، ثم يصنع بسائر أعماله كذلك. والله أعلم.
فأجاب: أما القنوت في صلاة الصبح، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقنت في النوازل. قنت مرة شهراً يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه، ثم تركه. وقنت مرة أخري يدعو لأقوام من أصحابه كانوا مأسورين عند أقوام يمنعونهم من الهجرة إليه. /وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت، فما كان يداوم عليه، وما يدعه بالكلية، وللعلماء فيه ثلاثة أقوال: قيل: إن المداومة عليه سنة. وقيل: القنوت منسوخ. وأنه كله بدعة. والقول الثالث: ـ وهو الصحيح ـ أنه يسن عند الحاجة إليه، كما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون. وأما القنوت في الوتر، فهو جائز وليس بلازم، فمن أصحابه من لم يقنت، ومنهم من قنت في النصف الأخير من رمضان، ومنهم من قنت السنة كلها. والعلماء منهم من يستحب الأول كمالك، ومنهم من يستحب الثاني كالشافعي، وأحمد في رواية، ومنهم من يستحب الثالث كأبي حنيفة، والإمام أحمد في رواية، والجميع جائز. فمن فعل شيئاً من ذلك، فلا لوم عليه. والله أعلم.
/وقال شيخ الإِسلاَم ـ رَحِمه ُالله: وأما القنوت، فالناس فيه طرفان، ووسط: منهم من لا يري القنوت إلا قبل الركوع، ومنهم من لا يراه إلا بعده. وأما فقهاء أهل الحديث ـ كأحمد وغيره ـ فيجوزون كلا الأمرين لمجيء السنة الصحيحة بهما، وإن اختاروا القنوت بعده؛ لأنه أكثر وأقيس. فإن سماع الدعاء مناسب لقول العبد: سمع الله لمن حمده، فإنه يشرع الثناء على الله قبل دعائه كما بنيت فاتحة الكتاب على ذلك: أولها ثناء، وآخرها دعاء. وأيضاً، فالناس في شرعه في الفجر على ثلاثة أقوال: بعد اتفاقهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر. منهم من قال: إنه منسوخ، فإنه قنت ثم ترك. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة. /ومن قال:المتروك هو الدعاء على أولئك الكفار،فلم تبلغه ألفاظ الحديث،أو بلغته فلم يتأملها، فإن في الصحيحين عن عاصم الأحول قال: سألت أنس بن مالك عن القنوت: هل كان قبل الركوع أو بعده؟ فقال: قبل الركوع. قال: فإن فلانا أخبرني أنك قلت بعد الركوع. قال: كذب، إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الركوع. أراه بعث قوماً يقال لهم القراء زهاء سبعين رجلا إلى قوم مشركين ـ دون أولئك ـ وكان بينهم وبين رسول الله عهد، وقنت صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم. وكذلك الحديث الذي رواه أحمد والحاكم عن الربيع بن أنس، عن أنس أنه قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الدنيا، جاء لفظه مفسرا: أنه: ما زال يقنت قبل الركوع. والمراد هنا بالقنوت طول القيام، لا الدعاء. كذلك جاء مفسرا، ويبينه ما جاء في الصحيحين عن محمد بن سيرين قال: قلت لأنس: قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح؟ قال: نعم، بعد الركوع يسيرا، فأخبر أن قنوته كان يسيرا وكان بعد الركوع، فلما كان لفظ القنوت هو إدامة الطاعة، سمي كل تطويل في قيام أو ركوع أو سجود قنوتاً. كما قال تعالى: ومنهم من قال: بل القنوت سنة راتبة، حيث قد ثبت عن النبي / صلى الله عليه وسلم أنه قنت، وروي عنه: أنه ما زال يقنت حتى فارق الدنيا. وهذا قول الشافعي، ثم من هؤلاء من استحبه في جميع الصلوات، لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت فيهن وجاء ذلك من غير وجه في المغرب والعشاء الآخرة، والظهر. لكن لم يرو أحد أنه قنت قنوتا راتبا بدعاء معروف. فاستحبوا أن يدعو فيه بقنوت الوتر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن على وهو: اللهم، اهدني فيمن هديت... إلى آخره. وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيره فقالوا: قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل التي نزلت به من العدو، في قتل أصحابه، أو حبسهم ونحو ذلك. فإنه قنت مستنصراً، كما استسقي حين الجدب، فاستنصاره عند الحاجة، كاسترزاقه عند الحاجة؛ إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس. كما قال تعالى: /وكذلك كان عمر ـ رضي الله عنه ـ إذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت، وكذلك على ـ رضي الله عنه ـ قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم. قالوا: وليس الترك نسخا، فإن الناسخ لابد أن ينافي المنسوخ، وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا لحاجة ثم تركه لزوالها، لم يكن ذلك نسخاً، بل لو تركه تركاً مطلقا، لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك، لا على النهي عن الفعل. قالوا: ونعلم مطلقاً أنه لم يكن يقنت قنوتا راتباً، فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله، فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم. ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائماً بعد الركوع، ولا أنه قنت دائماً يدعو قبله، وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب. فإذا علم هذا علم قطعاً أن ذلك لم يكن كما يعلم: أن حي على خير العمل، لم يكن من الأذان الراتب، وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضاً للناس على الصلاة. فهذا القول أوسط الأقوال، وهو أن القنوت مشروع غير منسوخ، لكنه مشروع للحاجة النازلة، لا سنة راتبة. وهذا أصل آخر في الواجبات، والمستحبات. كالأصل الذي تقدم في ما يسقط بالعذر، فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة / يسقط بالعذر العارض، بحيث لا يبقي لا واجباً ولا مستحباً، كما سقط بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات. وكذلك ـ أيضاً ـ قد يجب أو يستحب لأسباب العارضة، ما لا يكون واجباً ولا مستحباً راتباً، فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة، وسواء في ذلك ثبوت الوجوب، أو الاستحباب، أو سقوطه. وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتباً، أو تجعل الراتب لا يتغير بحال، ومن اهتدي للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة، انحلت عنه هذه المشكلات كثيرا.
هل قنوت الصبح دائماً سنة؟ ومن يقول: إنه من أبعاض الصلاة التي تجبر بالسجود، وما يجبر إلا الناقص. والحديث (ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت حتى فارق الحياة): فهل هذا الحديث من الأحاديث الصحاح؟ وهل هو هذا القنوت؟ وما أقوال العلماء في ذلك؟ وما حجة كل منهم؟ وإن قنت لنازلة: فهل يتعين قوله، أو يدعو بما شاء؟ /فأجاب: الحمد للَّه رب العالمين، قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قنت شهراً يدعو على رَعْل وذَكْوان وعصية، ثم تركه. وكان ذلك لما قتلوا القراء من الصحابة. وثبت عنه أنه قنت بعد ذلك بمدة بعد صلح الحديبية، وفتح خيبر، يدعو للمستضعفين من أصحابه الذين كانوا بمكة. ويقول في قنوته: (اللهم، انج الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين. اللهم، اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف). وكان يقنت يدعو للمؤمنين، ويلعن الكفار، وكان قنوته في الفجر. وثبت عنه في الصحيح أنه قنت في المغرب والعشاء، وفي الظهر، وفي السنن أنه قنت في العصر ـ أيضاً?. فتنازع المسلمون في القنوت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه منسوخ، فلا يشرع بحال، بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت، ثم ترك، والترك نسخ للفعل، كما أنه لما كان يقوم للجنازة، ثم قعد. جعل القعود ناسخاً للقيام، وهذا قول طائفة من أهل العراق كأبي حنيفة وغيره. /والثاني: أن القنوت مشروع دائماً، وأن المداومة عليه سنة، وأن ذلك يكون في الفجر. ثم من هؤلاء من يقول: السنة أن يكون قبل الركوع بعد القراءة سراً، وألا يقنت بسوي: اللهم، إنا نستعينك... إلى آخرها، واللهم، إياك نعبد، إلى آخرها، كما يقول: مالك. ومنهم من يقول: السنة أن يكون بعد الركوع جهراً. ويستحب أن يقنت بدعاء الحسن بن على الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم قي قنوته: (اللهم اهدني فيمن هديت...) إلى آخره. وإن كانوا قد يجوزون القنوت قبل وبعد. وهؤلاء قد يحتجون بقوله تعالى: أما الأولى: فقد ثبت بالنصوص الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطي هي العصر، وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة. ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم. وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة، فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم. /وأما الثانية: فالقنوت هو المداومة على الطاعة، وهذا يكون في القيام، والسجود. كما قال تعالى: ومعلوم أن ذلك واجب في جميع أجزاء القيام؛ ولأن قوله: واحتجوا ـ أيضاً ـ بما رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في صحيحه، عــن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زال يقنت حتى فارق الدنيا قالوا: وقوله في الحديث الآخر: ثم تركه، أراد ترك الدعاء على تلك / القبائل، لم يترك نفس القنوت. وهذا ـ بمجرده ـ لا يثبت به سنة راتبة في الصلاة، وتصحيح الحاكم دون تحسين الترمذي. وكثيراً ما يصحح الموضوعات، فإنه معروف بالتسامح في ذلك، ونفس هذا الحديث لا يخص القنوت قبل الركوع أو بعده، فقال: ما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الركوع إلا شهراً ?، فهذا حديث صحيح صريح عن أنس أنه لم يقنت بعد الركوع إلا شهراً، فبطل ذلك التأويل. والقنوت قبل الركوع قد يراد به طول القيام قبل الركوع، سواء كان هناك دعاء زائد، أو لم يكن. فحينئذ، فلا يكون اللفظ دالا على قنوت الدعاء، وقد ذهب طائفة إلى أنه يستحب القنوت الدائم في الصلوات الخمس، محتجين بأن النبي صلى الله عليه وسلم قنت فيها ولم يفرق بين الراتب والعارض، وهذا قول شاذ. والقول الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت لسبب نزل به ثم تركه عند عدم ذلك السبب النازل به، فيكون القنوت مسنوناً عند النوازل، وهذا القول هو الذي عليه فقهاء أهل الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم. فإن عمر ـ رضي الله عنه ـ لما حارب النصاري قنت عليهم القنوت/ المشهور: اللهم عذب كفرة أهل الكتاب... إلى آخره. وهو الذي جعله بعض الناس سنة في قنوت رمضان، وليس هذا القنوت سنة راتبة، لا في رمضان ولا غيره، بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة، ودعا في قنوته دعاء يناسب تلك النازلة، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قنت أولا على قبائل بني سليم الذين قتلوا القراء، دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده ثم لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء يناسب مقصوده. فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تدل على شيئين: أحدهما: أن دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه،ليس بسنة دائمة في الصلاة. الثاني: أن الدعاء فيه ليس دعاء راتباً، بل يدعو في كل قنوت بالذي يناسبه، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولا، وثانياً. وكما دعا عمر. وعلى ـ رضي الله عنهم ـ لما حارب من حاربه في الفتنة، فقنت ودعا بدعاء يناسب مقصوده، والذي يبين هذا أنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائماً، ويدعو بدعاء راتب، لكان المسلمون ينقلون هذا عن نبيهم، فإن هذا من الأمور التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها، وهم الذين نقلوا عنه في قنوته ما لم يداوم عليه، وليس بسنة راتبة، كدعائه على الذين قتلوا أصحابه، ودعائه للمستضعفين من/ أصحابه، ونقلوا قنوت عمر وعلي على من كانوا يحاربونهم. فكيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقنت دائما في الفجر أو غيرها، ويدعو بدعاء راتب، ولم ينقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لا في خبر صحيح، ولا ضعيف؟! بل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين هم أعلم الناس بسنته، وأرغب الناس في اتباعها، كابن عمر وغيره، أنكروا، حتى قال ابن عمر: ما رأينا ولا سمعنا. وفي رواية: أرأيتكم قيامكم هذا: تدَّعون. ما رأينا ولا سمعنا. أفيقول مسلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت دائما؟! وابن عمر يقول: ما رأينا، ولا سمعنا. وكذلك غير ابن عمر من الصحابة، عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة. ومن تدبر هذه الأحاديث في هذا الباب، علم علماً يقيناً قطعياً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقنت دائماً في شيءٍ من الصلوات، كما يعلم علماً يقينياً أنه لم يكن يداوم على القنوت في الظهر والعشاء والمغرب، فإن من جعل القنوت في هذه الصلوات سنة راتبة يحتج بما هو من جنس حجة الجاهلين له في الفجر سنة راتبة. ولا ريب أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في هذه الصلوات؛ لكن الصحابة بينوا الدعاء الذي كان يدعو به، والسبب الذي قنت له، وأنه ترك ذلك عند حصول المقصود، نقلوا ذلك في / قنوت الفجر، وفي قنوت العشاء ـ أيضاً. والذي يوضح ذلك، أن الذين جعلوا من سنة الصلاة أن يقنت دائماً بقنوت الحسن بن على، أو بسورتي أُبي، ليس معهم إلا دعاء عارض، والقنوت فيها إذا كان مشروعاً، كان مشروعاً للإمام والمأموم والمنفرد، بل وأوضح من هذا أنه لو جعل جاعل قنوت الحسن، أو سورتي أبي سنة راتبة في المغرب والعشاء، لكان حاله شبيهاً بحال من جعل ذلك سنة راتبة في الفجر؛ إذ هؤلاء ليس معهم في الفجر إلا قنوت عارض بدعاء يناسب ذلك العارض، ولم ينقل مسلم دعاء في قنوت غير هذا، كما لم ينقل ذلك في المغرب والعشاء. وإنما وقعت الشبهة لبعض العلماء في الفجر؛ لأن القنوت فيها كان أكثر، وهي أطول. والقنوت يتبع الصلاة، وبلغهم أنه داوم عليه، فظنوا أن السنة المداومة عليه، ثم لم يجدوا معهم سنة بدعائه. فسنوا هذه الأدعية المأثورة في الوتر، مع أنهم لا يرون ذلك سنة راتبة في الوتر. وهذا النزاع الذي وقع في القنوت له نظائر كثيرة في الشريعة: فكثيراً ما يفعل النبي صلى الله عليه وسلم لسبب، فيجعله بعض الناس سنة، ولا يميز بين السنة الدائمة والعارضة. وبعض الناس يري أنه لم يكن يفعله في أغلب الأوقات، فيراه بدعة، ويجعل فعله في بعض الأوقات مخصوصاً أو منسوخا، إن كان قد بلغه ذلك، مثل صلاة التطوع في جماعة. فإنه قد ثبت عنه في الصحيح: أنه صلى بالليل وخلفه ابن / عباس مرة، وحذيفة بن اليمان مرة، وكذلك غيرهما. وكذلك صلى بعتبان بن مالك في بيته التطوع جماعة، وصلى بأنس ابن مالك وأمه واليتيم في داره، فمن الناس من يجعل هذا فيما يحدث من [صلاة الألفية] ليلة نصف شعبان، والرغائب، ونحوهما مما يداومون فيه على الجماعات. ومن الناس من يكره التطوع؛ لأنه رأي أن الجماعة إنما سنت في الخمس، كما أن الأذان إنما سن في الخمس. ومعلوم أن الصواب هو ما جاءت به السنة، فلا يكره أن يتطوع في جماعة. كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يجعل ذلك سنة راتبة. كمن يقيم للمسجد إمامًا راتباً يصلي بالناس بين العشائين، أو في جوف الليل، كما يصلي بهم الصلوات الخمس، كما ليس له أن يجعل للعيدين وغيرهما أذاناً كأذان الخمس؛ ولهذا أنكر الصحابة على من فعل هذا من ولاة الأمور إذ ذاك. ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان، فإنه قد ثبت أن أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان، ويوتر بثلاث. فرأي كثير من العلماء أن ذلك هو السنة؛ لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار، ولم ينكره منكر. واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة؛ بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم. /وقال طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، واضطرب قوم في هذا الأصل، لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين، وعمل المسلمين. والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما قد نص على ذلك الإمام أحمد ـ رضي الله عنه ـ وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيها عدداً. وحينئذ، فيكون تكثير الركعات وتقليلها، بحسب طول القيام وقصره. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام بالليل، حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة، والنساء، وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات. وأبي بن كعب لما قام بهم ـ وهم جماعة واحدة ـ لم يمكن أن يطيل بهم القيام. فكثر الركعات ليكون ذلك عوضاً عن طول القيام، وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته، فإنه كان يقوم بالليل إحدي عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة، ثم بعد ذلك كان الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعاً وثلاثين. /وممـا يناسب هـذا أن الله ـ تعالى ـ لمـا فـرض الصلـوات الخمس بمكـة، فرضها ركعتيــن ركعتين، ثم أقرت في السفر، وزيـد في صلاة الحضر، كما ثبت ذلك في الصحيح عن عائشة ـ رضـي الله عنها ـ أنها قالت: لما هاجـر إلى المدينة زيد في صــلاة الحضر، وجعلت صــلاة المغرب ثلاثا؛ لأنهـا وتر النهار، وأما صلاة الفجر فأقرت ركعتين لأجل تطويل القراءة فيها، فأغني ذلك عن تكثير الركعات. وقد تنازع العلماء: أيما أفضل: إطالة القيام أم تكثير الركوع والسجود أم هما سواء؟ على ثلاثة أقوال: وهي ثلاث روايات عن أحمد. وقد ثبت عنه في الصحيح أي الصلاة أفضل؟ قال: [طول القنوت]. وثبت عنه أنه قال: (إنك لن تسجد للَّه سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة). وقال لربيعة بن كعب: (أعني على نفسك بكثرة السجود). ومعلوم أن السجود في نفسه أفضل من القيام، ولكن ذكر القيام أفضل، وهو القراءة، وتحقيق الأمر أن الأفضل في الصلاة أن تكون معتدلة. فإذا أطال القيام يطيل الركوع والسجود، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل، كما رواه حذيفة وغيره. وهكذا / كانت صلاته الفريضة، وصلاة الكسوف، وغيرهما: كانت صلاته معتدلة، فإن فضل مفضل إطالة القيام والركوع والسجود مع تقليل الركعات وتخفيف القيام والركوع والسجود مع تكثير الركعات، فهذان متقاربان. وقد يكون هذا أفضل في حال، كما أنه لما صلى الضحي يوم الفتح صلى ثماني ركعات يخففهن، ولم يقتصر على ركعتين طويلتين. وكما فعل الصحابة في قيام رمضان لما شق على المأمومين إطالة القيام. وقد تبين بما ذكرناه أن القنوت يكون عند النوازل، وأن الدعــاء في القنــوت ليــس شيئاً معيناً، ولا يدعو بما خطــر له، بل يدعو مــن الدعــاء المشـروع بما يناسب سبب القنوت، كما إنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناســب المقصــود، فكذلك إذا دعا في الاستنصار دعا بما يناسب المقصود، كما لو دعا خارج الصلاة لذلك الســبب؛ فإنه كان يدعو بما يناسب المقصود، فهذا هو الذي جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين. ومن قال: إنه من أبعاض الصلاة التي يجبر بسجود السهو، فإنه بني ذلك على أنه سنة يسن المداومة عليه، بمنزلة التشهد الأول، ونحوه. وقد تبين أن الأمر ليس كذلك، فليس بسنة راتبة، ولا يسجد له، لكن من اعتقد ذلك متأولاً في ذلك له تأويله، كسائر موارد الاجتهاد. ولهذا ينبغي للمأموم أن يتبع إمامه فيما يسوغ فيه الاجتهاد، / فإذا قَنَتَ قَنَتَ معه، وإن ترك القنوت لم يقنت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به). وقال: (لا تختلفوا على أئمتكم)، وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (يُصَلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم). ألا تري أن الإمام لو قرأ في الأخيرتين بسورة مع الفاتحة وطولهما على الأوليين: لوجبت متابعته في ذلك. أما مسابقة الإمام، فإنها لا تجوز. فإذا قنت لم يكن للمأموم أن يسابقه، فلابد من متابعته، ولهذا كان عبد الله بن مسعود قد أنكر على عثمان التربيع بمني، ثم إنه صلى خلفه أربعاً، فقيل له: في ذلك؟! فقال: الخلاف شر. وكذلك أنس بن مالك لما سأله رجل عن وقت الرمي، فأخبره، ثم قال: افعل كما يفعل إمامك. والله أعلم.
فأجاب: الحمـد للَّه رب العالمين. قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة. ما تقول؟ قال: (أقول: اللهم، باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم، نقني من خطاياي كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس، اللهم، اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، فهذا حديث صحيح صريح في أنه دعا لنفسه خاصة، وكان إماماً. وكذلك حديث على في الاستفتاح الذي أوله: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض)، فيه: (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت). وكذلك ثبت في الصحيح أنه كان يقول بعد رفع رأسه من الركوع بعد قوله: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت)، (اللهم، طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم، نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس). وجميع هذه الأحاديث المأثورة في دعائه بعد التشهد من فعله، ومن أمره، لم ينقل فيها إلا لفظ الإفراد. كقوله: (اللهم، إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال). وكذا دعاؤه بين / السجدتين، وهو في السنن من حديث حذيفة، ومن حديث ابن عباس، وكلاهما كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه إماما، أحدهما بحذيفة، والآخر بابن عباس. وحديث حذيفة: (رب، اغفر لي، رب، اغفر لي) ، وحديث ابن عباس فيه: (اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني)، ونحو هذا. فهذه الأحاديث التي في الصحاح والسنن تدل على أن الإمام يدعو في هذه الأمكنة بصيغة الإفراد. وكذلك اتفق العلماء على مثل ذلك. حيث يرون أنه يشرع مثل هذه الأدعية. وإذا عرف ذلك تبين أن الحديث المذكور ـ إن صح ـ فالمراد به الدعاء الذي يُؤمِّن عليه المأموم ـ كدعاء القنوت ـ فإن المأموم إذا أَمَّن كان داعياً، قال الله تعالى لموسى وهرون: فأما المواضع التي يدعو فيها كل إنسان لنفسه ـ كالاستفتاح، وما بعد التشهد، ونحو ذلك ـ فكما أن المأموم يدعو لنفسه، فالإمام يدعو لنفسه. كما يسبح المأموم في الركوع والسجود، إذا سبح الإمام في / الركوع والسجود، وكما يتشهد إذا تشهد، ويكبر إذا كبر، فإن لم يفعل المأموم ذلك فهو المفرط. وهذا الحديث لو كان صحيحاً صريحاً معارضــاً للأحاديــث المستفيضــة المتواترة، ولعمل الأمة، والأئمة، لم يلتفت إليه، فكيف وليس من الصحيح، ولكن قد قيل: إنه حسن، ولو كان فيه دلالة لكان عاماً، وتلك خاصة، والخاص يقضــي على العــام. ثم لفظه (فيخص نفسه بدعــوة دونــهم) ، يراد بمثــل هذا إذا لم يحصــل لهم دعاء، وهذا لا يكون مع تأمينهم. وأما مع كونهم مؤمِّنـين على الدعــاء كلما دعــا، فيحصــل لهم كما حصل له بفعلهم، ولهذا جاء دعاء القنوت بصيغة الجمع: (اللهم، إنا نستعينك، ونستهديك) إلى آخره. ففي مثل هذا يأتي بصيغة الجمع، ويتبع السنة على وجهها. والله أعلم.
فأجاب: الحمد للَّه رب العالمين. السنة في التراويح أن تصلي بعد العشاء الآخرة، كما اتفق على ذلك السلف والأئمـة. والنقـل المذكـور / عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ باطل، فما كان الأئمـة يصلونها إلا بعد العشاء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين، وعلى ذلك أئمة المسلمين، لا يعرف عن أحد أنه تعمد صلاتها قبل العشاء، فإن هذه تسمي قيام رمضان، كما قـال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه، غفر له ما تقدم من ذنبه). وقيام الليل في رمضان وغيره، إنما يكون بعد العشاء. وقد جاء مصرحاً به في السنن: أنه لما صلى بهم قيام رمضان صلى بعد العشاء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قيامه بالليل هو وتره، يصلي بالليل في رمضان وغير رمضان إحدي عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يصليها طوالا. فلما كان ذلك يشق على الناس، قام بهم أبي بن كعب في زمن عمر بن الخطاب عشرين ركعة، يوتر بعدها، ويخفف فيها القيام، فكان تضعيف العدد عوضاً عن طول القيام. وكان بعض السلف يقوم أربعين ركعة فيكون قيامها أخف، ويوتر بعدها بثلاث. وكان بعضهم يقوم بست وثلاثين ركعة يوتر بعدها، وقيامهم المعروف عنهم بعد العشاء الآخرة. ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح. فإذا صلوها قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح، كما أنهم إذا توضؤوا يغسلون / أرجلهم أول الوضوء، ويمسحونها في آخره. فمن صلاها قبل العشاء، فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة. والله أعلم.
وسئل عما يصنعه أئمة هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام في رمضان في ركعة واحدة ليلة فأجاب: نعم بدعة. فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ولا غيرهم من الأئمة أنهم تحروا ذلك، وإنما عمدة من يفعله ما نقل عن مجاهد وغيره، من أن سورة الأنعام نزلت جملة. مشيعة بسبعين ألف ملك، فقرؤوها جملة لأنها نزلت جملة. وهذا استدلال ضعيف وفي قراءتها جملة من الوجوه المكروهة أمور. منها: أن فاعل ذلك يطول الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشاً. والسنة تطويل الأولى على الثانية كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها تطويل آخر قيام الليل على أوله، وهو خلاف السنة، فإنه كان يطول أوائل ما كان يصليه من الركعات على أواخرها. والله أعلم.
/ فأجاب: الحمد للَّه، بل المصيب هذا الممتنع من فعلها، والذي تركها. فإن هذه الصلاة لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين، بل هي بدعة مكروهة باتفاق الأئمة، ولا فعل هذه الصلاة لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا يستحبها أحد من أئمة المسلمين، والذي ينبغي: أن تترك وينهى عنها. وأما قراءة القرآن في التراويح، فمستحب باتفاق أئمة المسلمين، بل من أجل مقصود التراويح قراءة القرآن فيها ليسمع المسلمون كلام الله. فإن شهر رمضان فيه نزل القرآن، وفيه كان جبريل يدارس النبي/ صلى الله عليه وسلم القرآن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن.
وسئل عن سنة العصر: هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها حديث؟ فأجاب: الحمد للَّه، أما الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فحديث ابن عمر: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر. وفي الصحيح ـ أيضاً ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً، بني الله له بيتاً في الجنة)، وجاء في السنن تفسيره: (أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر). وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صـلاة)، ثم قـال في الثالثة: (لمن شـاء)؛ كراهية أن يتخذهـا الناس سنـة. ففي هـذا الحديث أنـه يصلي / قبـل العصـر، وقبــل المغرب، وقبل العشاء. وقد صح أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون بين أذان المغــرب وإقامتها ركعتين والنبي صلى الله عليه وسلم يراهم فلا ينهاهم، ولم يكن يفعل ذلك. فمثل هذه الصلوات حسنة ليست ســنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن تتخذ سنة. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء، فلا تتخذ سنة، ولا يكره أن يصلي فيها؛ بخلاف ما فعله ورغب فيه، فإن ذلك أوكد من هذا. وقد روي: أنه كان يصلي قبل العصر أربعاً?، وهو ضعيف. وروي: أنه كان يصلي ركعتين. والمراد به الركعتان قبل الظهر. والله أعلم.
فأجاب: الحمد للَّه، الذي ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي مع المكتوبات عشر ركعات أو اثنتي عشرة ركعة؛ ركعتين قبل الظهر أو أربعاً وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين. وكذلك ثبت في الصحيح أن / النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعا غير فريضة بني الله له بيتا في الجنة)، ورويت في السنن: (أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر). وليس في الصحيح سوي هذه الأحاديث الثلاثة: حديث ابن عمر وعائشة وأم حبيبة. وأما قبل العصر، فلم يقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر إلا وفيه ضعف، بل خطأ كحديث يروي عن على أنه كان يصلي نحو ستة عشر ركعة، منها قبل العصر، وهو مطعون فيه فإن الذين اعتنوا بنقل تطوعاته كعائشة وابن عمر بينوا ما كان يصليه، وكذلك الصلاة قبل المغرب وقبل العشاء لم يكن يصليها لكن كان أصحابه يصلون قبل المغرب بين الأذان والإقامة، وهو يراهم فلا ينكر ذلك عليهم. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة، بين كلا أذانين صلاة)، ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة فهذا يبين أن الصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء حسنة وليست بسنة، فمن أحب أن يصلي قبل العصر كما يصلي قبل المغرب والعشاء على هذا الوجه، فحسن. وأما أن يعتقد أن ذلك سنة راتبة كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي قبل الظهر وبعدها وبعد المغرب، فهذا خطأ. والصلاة مع المكتوبة ثلاث درجات: إحداها: سنة الفجر والوتر: فهاتان أمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بغيرهما وهما سنة باتفاق الأئمة، وكان النبي / صلى الله عليه وسلم يصليهما في السفر والحضر ولم يجعل مالك سنة راتبة غيرهما. والثانية: ما كان يصليه مع المكتوبة في الحضر وهو عشر ركعات وثلاث عشرة ركعة وقد أثبت أبو حنيفة والشافعي وأحمد مع المكتوبات سنة مقدرة بخلاف مالك. والثالثة: التطوع الجائز في هذا الوقت من غير أن يجعل سنة لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليه ولا قدر فيه عدداً، والصلاة قبل العصر والمغرب والعشاء من هذا ال باب وقريباً من ذلك صلاة الضحي، والله أعلم.
فأجاب: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر شيئاً وإنما كان يصلي قبل الظهر: إما ركعتين، وإما أربعاً، وبعدها. وكان يصلي بعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين. وأما قبل العصر، وقبل المغرب، وقبل العشاء، فلم يكن يصلي؛ لكن ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (بين كل أذانين صلاة) ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)؛ كراهية أن يتخذها الناس سنة، فمن شاء أن يصلي تطوعاً قبل العصر، فهو حسن. لكن لا يتخذ ذلك سنة، والله أعلم.
/ فأجاب: أما إذا فاتت السنة الراتبة ـ مثل سنة الظهر ـ فهل تقضي بعد العصر؟ على قولين هما روايتان عن أحمد: أحدهما: لا تقضي، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك. والثاني: تقضي، وهو قول الشافعي، وهو أقوي. والله أعلم.
فأجاب: من أصر على تركها، دل ذلك على قلة دينه، وردت شهادته في مذهب أحمد، والشافعي، وغيرهما.
/ فأجاب: أما الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يصلي في السفر من التطوع، فهو ركعتا الفجر، حتى إنه لما نام عنها هو وأصحابه في منصرفه من خيبر، قضاهما مع الفريضة هو وأصحابه، وكذلك قيام الليل، والوتر. فإنه قد ثبت عنه في الصحيح: أنه كان يصلي على راحلـته قبـل أي وجـه توجهت بـه، ويوتر عليها، غـير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. وأمـا الصلاة قبل الظهر وبعـدها، فلم ينقل عنه أنه فعل ذلك في السفر، ولم يصل معها شيئاً، وكذلك كان يصلي بمني ركعتين، ركعتين ولم ينقل عنه أحد أنه صلى معها شيئاً. /وابن عمر كان أعلم الناس بالسنة، وأتبعهم لها، وأما العلماء فقد تنازعوا في استح باب ذلك. والله أعلم.
فأجاب: كان بلال كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم يفصل بين أذانه وإقامته، حتى يتسع لركعتين، فكان من الصحابة من يصلي بين الأذانين ركعتين، والنبي صلى الله عليه وسلم يراهم ويقرهم، وقال: (بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة)، ثم قال في الثالثة: (لمن شاء)؛ مخافة أن تتخذ سنة. فإذا كان المؤذن يفرق بين الأذانين مقدار ذلك، فهذه الصلاة حسنة، وأما إن كان يصل الأذان بالإقامة، فالاشتغال بإجابة المؤذن هو السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول). ولا ينبغي لأحد أن يدع إجابة المؤذن، ويصلي هاتين الركعتين، فإن السنة لمن سمع المؤذن أن يقول: مثل ما يقول، ثم يصلي على / النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: (اللهم، رب هذه الدعوة التامة...) إلى آخره ، ثم يدعو بعد ذلك.
فأجاب: نعم. صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم). لكن إذا كان عادته أنه يصلي قائما، وإنما قعد لعجزه، فإن الله يعطيه أجر القائم. لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم)، فلو عجز عن الصلاة كلها لمرض كان الله يكتب له أجرها كله؛ لأجل نيته وفعله بما قدر عليه، فكيف إذا عجز عن أفعالها؟!
|